بوادر انفراج في العلاقات الروسية الأمريكية والروسية وحلف "الناتو"
ما أن بدأ العام الجديد، وبدأت المفاوضات بين الأطراف: روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، ثم روسيا و"الناتو"، حتى امتلأت وسائل الإعلام بتحذيرات وتكهنات وتنبؤات بحرب نووية متوقعة.
بيد أن التوتر ليس، ولم يكن، وليد الحملات الإعلامية الغربية، والحملات المضادة لها، قدر استناده إلى حقائق موضوعية على الأرض، لابد من العودة إليها حتى نتفهم أبعاد الموقف المبدئي للدولة الروسية، ومدى منطقية وعقلانية وتوازن التحركات الروسية، بمنطق رد الفعل لا الفعل، وبغرض الدفاع لا الهجوم.
لقد أدى الانقلاب السياسي الذي وقع في أوكرانيا مطلع عام 2014 إلى انقسام البلاد بين أجزاء موالية للحكومة في كييف، اعتبرت الأحداث "ثورة على نظام يانوكوفيتش"، وأجزاء أخرى (في الشرق والجنوب)، لم تعترف بالحكومة المركزية الجديدة في كييف، واعتبرت الانقلاب مؤشراً خطراً يهدد مصالح شعوب تلك المناطق المتماهية مع مناطق غرب وجنوب روسيا، والتي كانت في يوم من الأيام تجتمع جميعاً، بما في ذلك أوكرانيا بأكملها، تحت مظلة الاتحاد السوفيتي. كذلك تمكنت جمهورية القرم من الانفصال عن أوكرانيا، استناداً إلى استفتاء رسمي شرعي، بموجب قوانين الجمهورية وشرعية البرلمان في القرم، ثم الانضمام إلى روسيا بأغلبية شعبية كاسحة، مثلما حدث ذات يوم في إعلان استقلال كوسوفو عام 2008. إلا أن الغرب يعاني من عقدة التفوق، ويمارس الكيل بمكيالين ويرفض أن يرى الأمور بموضوعية وتطبيق نفس القواعد والقوانين على الجميع بالعدل والمساواة.
اتخذت الحكومتان المنتخبتان لجمهوريتي لوغانسك ودونيتسك الواقعتان ضمن حدود أوكرانيا في الشرق والجنوب، قراراً أحادياً بالانفصال عن أوكرانيا، في الوقت الذي لجأت فيه حكومة كييف، وعدد من التنظيمات اليمينية المتطرفة إلى حلول أمنية، لم تنجح، وتسببت في مقتل آلاف المواطنين الأوكرانيين من الجانبين، واندلاع احتراب أهلي، وتوتر في المنطقة، فتدخلت "رباعية النورماندي" المكونة من روسيا وأوكرانيا وألمانيا وفرنسا وبمشاركة الجمهوريتين المنفصلتين، لحل القضية، دفاعاً عن وحدة أراضي أوكرانيا من جانب، وعن أهالي تلك المناطق ممن يحملون الجنسية الأوكرانية، إلا أنهم ينتمون إلى الثقافة الروسية، ويتحدثون اللغة الروسية، بينما تتبع الحكومة المركزية في كييف سياسة مناهضة لكل ما هو روسي، وتمنع فتح المدارس الروسية، وبث القنوات التلفزيونية الروسية، وغيرها من الإجراءات التي تثير حفيظة ورعب تلك المناطق من الرضوخ للحكومة المركزية في كييف.
مع مرور الوقت، ومنح السلطات الروسية بعض التسهيلات في إجراءات الحصول على جوازات سفر روسية، حصل كثيرون من أهالي تلك المناطق على جوازات سفر روسية بالإضافة لجوازاتهم الأصلية الأوكرانية، لتصبح هذه المنطقة، علاوة على انتمائها العرقي والقومي لروسيا، من واقع ترابط وتواصل المناطق في جمهوريتي روسيا وأوكرانيا داخل الاتحاد السوفيتي السابق، تحمل على أرضها كتلة سكانية تقدر بحوالي 700 ألف مواطن أوكراني يحملون الجنسية الروسية، ويتحدثون اللغة الروسية، وتظللهم الثقافة الروسية بالكامل.
في 12 فبراير 2015، تم التوقيع على اتفاقية مينسك، وأعرب رؤساء رباعية النورماندي حينها، روسيا وأوكرانيا وألمانيا وفرنسا، عن اقتناعهم التام بأنه لا بديل عن تسوية سلمية بحتة للأزمة الأوكرانية. ونصت الاتفاقية على السحب الكامل لجميع الأسلحة الثقيلة على مسافات متساوية، وإنشاء مناطق أمنية عازلة بعرض 50 و70 و140 كيلومتراً لمختلف الأسلحة وأنظمة الصواريخ التكتيكية، وضمان العفو والإفراج عن الرهائن والمحتجزين بشكل غير قانوني، ومبادلتهم على أساس مبدأ "الجميع مقابل الجميع"، وتحديد طرق الاستعادة الكاملة للروابط الاجتماعية والاقتصادية، بما في ذلك التحويلات الاجتماعية، مثل دفع المعاشات التقاعدية والمدفوعات الأخرى.
كما نصت الاتفاقية كذلك على إجراء إصلاح دستوري في أوكرانيا، مع دخول دستور جديد حيز التنفيذ بحلول نهاية عام 2015، يفترض اللامركزية عنصراً أساسياً، مع مراعاة خصائص كل من مناطق دونيتسك ولوغانسك، المتفق عليها مع ممثلي هذه المناطق، وكذلك اعتماد تشريع دائم بشأن وضع خاص لمقاطعات معينة في مناطق دونيتسك ولوغانسك وفقاً للإجراءات المتفق عليها.
في منتصف أبريل الماضي قدّم الجانب الأوكراني تعديلات على المشروع الفرنسي الألماني لحل الأزمة، تضمنت التعديلات إصرار أوكرانيا على "استعادة السيطرة الكاملة على الحدود مع روسيا قبل إجراء الانتخابات المحلية في دونيتسك ولوغانسك، وإنشاء مجموعة فرعية حول قضايا إعادة السيطرة على الحدود. كما رفضت أوكرانيا في تعديلاتها التنسيق مع دونيتسك ولوغانسك بشأن الإصلاحات الدستورية"، التي ينبغي، وفقاً لاتفاقية مينسك، أن تفترض اللامركزية عنصراً أساسياً. كما اقترحت أوكرانيا كذلك ربط اعتماد مشاريع القوانين في إطار اتفاقيات مينسك في الوقت المحدد بانسحاب القوات الأجنبية، وانسحاب القوات والأسلحة من خط الترسيم، وعودة السيطرة الكاملة على الحدود.
من جانبها، تصر روسيا تماماً على تنفيذ اتفاقية مينسك قبل الشروع في أي خطوات أو إجراءات أخرى. في ظل ذلك، ومع تصاعد التوترات بين واشنطن وموسكو، تتعالى الأصوات التي تزعم إعداد موسكو لـ "اجتياح روسي محتمل لأوكرانيا"، و"وثائق مسربة" من المخابرات المركزية الأمريكية حول "خطط الكرملين لشن هجوم متعدد الجبهات في وقت مبكر من هذا العام، يشارك فيه ما يصل إلى 175 ألف جندي".
واقع الأمر أن انتهاك كييف لاتفاقية مينسك قد بلغ حدوداً مقلقة خلال العام الماضي، فمع وقف إطلاق النار، الذي وقعت عليه أوكرانيا، إلا أنها واصلت قصف مناطق دونيتسك ولوغانسك، وأصيب 97 عسكرياً و32 مدنياً، وقتل 70 عسكرياً وسبعة مدنيين. وخلال العام الماضي وحده، دمرت التشكيلات المسلحة لأوكرانيا وألحقت أضراراً بـ 111 منشأة مدنية قصفاً. كذلك تعمّد الجانب الأوكراني إفشال جميع المفاوضات الخاصة بإحلال السلام. في الوقت نفسه، يؤدي الرئيس الأوكراني، فلاديمير زيلينسكي، رقصة محددة، على "دف" الولايات المتحدة الأمريكية، التي صعّدت من لهجة "الغزو الروسي" لأوكرانيا، وتهدد بعقوبات غير مسبوقة على روسيا، حال هجومها على أوكرانيا.
كذلك تحشد أوكرانيا على حدود منطقة الدونباس (دونيتسك ولوغانسك) حوالي 130 ألف عسكري، فيما يبدو وكأنه استعداد لعمليات عسكرية وشيكة، فهل تريد أوكرانيا حل مشكلة دونيتسك ولوغانسك عسكرياً، مع وضع كل ما سبق من بيانات على الطاولة؟ وهل تدرك كييف عواقب الهجوم على منطقة بها 700 ألف مواطن روسي، متاخمة للحدود الروسية، وتخاطر بالاشتباك مع روسيا؟
لا أحد يعرف، إلا أن السؤال الأصعب هو مدى تورط الناتو في مثل تلك الخطط، ومدى التأثير الذي يحدثه الدعم الأمريكي، ودعم "الناتو" على مغامرات كييف العسكرية الطائشة، التي يمكن أن تشعل المنطقة بعود ثقاب واحد، علماً بأن "الناتو" أو الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا ما أعتقده، لن تكون طرفاً في الصراع، وسوف يتركان أوكرانيا لمصير مجهول، تعرفه روسيا، وربما لا تعرفه القيادة الأوكرانية.
رداً على ما يدور في أروقة القيادة الأوكرانية، وما يدبرّ من دعم أمريكي ودعم من "الناتو"، تضع القوات الروسية حشودها، داخل حدودها، أينما يتراءى لها، وكيفهما تملي عليها ضرورات الأمن القومي والدفاع عن المصالح العليا للدولة الروسية، وكما صرح وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، خلال مؤتمره الصحفي مع وزيرة الخارجية الألمانية الجديدة، أنالينا بيربوك، الثلاثاء 19 يناير الجاري، فإن موسكو لا يمكن أن تقبل أي انتقادات لأي تحركات عسكرية روسية على الأراضي الروسية، وما يسميه السياسيون الغربيون تصعيداً، ليس سوى أنشطة التدريب القتالي العادية، التي تجريها، ومن حقها أن تجريها أي دولة.
وشدد الوزير الروسي على أن روسيا لا تقدم أي ذرائع للصراع، كل ما تطلبه هو التنفيذ الدقيق للاتفاقيات، وأضاف أنه "من المستحيل الانسحاب" من مقترحات روسيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية وحلف "الناتو" بشأن الضمانات الأمنية. وكان لافروف قد أكّد، في وقت سابق، على أن روسيا ليست طرفاً في الصراع في أوكرانيا، ومن غير المقبول التعامل معها على هذا النحو، مع وجود محاولات لإلقاء المسؤولية في عدم الامتثال لاتفاقية مينسك إلى موسكو، إلا أن لافروف قال إن هناك تفاهماً مشتركاً مع ألمانيا بأنه لا بديل عن اتفاقيات مينسك.
لقد امتثلت روسيا لرغبة شعب شبه جزيرة القرم في الانضمام إلى الدولة الروسية عام 2014، وكان من المنطقي، استراتيجياً، ألا تسمح روسيا لقواعد "الناتو" أن تصبح عند قدميها في البحر الأسود، إنها أبجدية الأمن القومي الروسي، مثلما تبدو أبجدية الأمن القومي دفاع روسيا عن نفسها ضد اقتراب الحلف من حدودها إلى الحد الذي أصبحت فيه المدة التي يستغرقها صاروخ "الناتو" ليصل إلى وسط روسيا 7-10 دقائق، إذا ما نصب قواعده في أوكرانيا! فهل يعقل أن تصمت روسيا، القوة العظمى، التي استطاعت بالتنسيق مع شركائها في منظمة معاهدة الأمن الجماعي، أن تنشر قواتها في أقل من 24 ساعة في كازاخستان، عقب الأحداث الأخيرة مطلع الشهر الجاري، وتعيدها بعد انتهاء مهمتها ف ظرف أيام معدودة. بعد ما زعم وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، بمجرد تحرك قوات المنظمة إلى كازاخستان، وجزء كبير منها ينتمي للقوات المسلحة الروسية، أنه "من الصعب التخلص من الروس إذا داخلوا إلى بيتك". وهل يعقل أن يستمر "الناتو" في التمدد إلى ما لا نهاية، دون أن يكون من حق روسيا الدفاع عن أمنها القومي؟ أي منطق هذا؟.
إن روسيا اليوم لم تعد نفس روسيا التسعينيات، وربما هذا تحديداً هو ما يقلق الغرب، حيث أصبحت روسيا تتفوق نوعياً من حيث الأسلحة والتكنولوجيا المتقدمة التي لم يعد يضاهيها فيها أحد، كما تتفوق روسيا في مجال الفضاء، وباستطاعتها أن تتمدد اقتصادياً دون سقف، لولا الحصار الذي يفرضه عليها الغرب، واستنزافه لكثير من وقتها وطاقتها لإثبات أكثر الأمور منطقية وعقلانية. لإثبات أن سياسة ازدواجية المعايير في السياسة الدولية لم تعد مقبولة، وأن الحق فوق القوة، وأن هيئة الأمم المتحدة هي المظلة التي يجب أن ننصاع لها جميعاً، وأن الاقتصاد يجب ألا يصبح أسيراً للسياسة في عالم مفتوح وأسواق حرة، وأن القوانين والأعراف الدولية لابد وأن تسري على جميع الدول، دون تفرقة أو شعور بالتفوق الزائف من بعض الدول على دول أخرى.
ربما هذا هو ما يقلق الغرب، ويدفع وسائل الإعلام الأمريكية والغربية نحو الهيستيريا والتوتر المبالغ فيه. بهذا الصدد أود أن أطمأن الجميع، أن روسيا لا تعتزم الدخول في أي مواجهة نووية، أو غير نووية مع الولايات المتحدة الأمريكية أو "الناتو"، فكل ما تريده روسيا هو الأمن للجميع، "لكم ولنا".
روسيا لا تريد اجتياح أوكرانيا بأي صورة من الصور، ولا تريد التدخل في الأزمة الأوكرانية بين كييف ودونيتسك ولوغانسك، فهي في نهاية المطاف، قضية داخلية أوكرانية. لكن روسيا، في الوقت نفسه، لن تسمح، تحت أي ظرف من الظروف، بأن يتم الاعتداء عليها بأي شكل من الأشكال، ولن تسمح بالتعدي على أمنها القومي من أي كيان على وجه الأرض، ولن تسمح أن تكون تحت رحمة "الناتو" أو الولايات المتحدة الأمريكية أو أي قوة أخرى. لروسيا مصالح استراتيجية، وجيوسياسية في منطقة نفوذها، ولها خطوط إنتاج ونقل وطاقة يجب احترامها، تماماً كما تحترم هي مصالح الجميع، ومن بينهم الولايات المتحدة الأمريكية والغرب.
في نهاية المطاف أتصور أن المحادثة الهاتفية بين وزيري الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، والأمريكي، أنتوني بلينكن، وكذلك لقاءهما المزمع في 21 يناير الجاري في جنيف، إلى جانب أجواء اللقاء مع وزيرة الخارجية الألمانية، أنالينا بيربوك، تشير إلى وجود تقدم ملموس، وإن كان حذراً، في العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، وبين روسيا و"الناتو"، ربما لبدء مرحلة تهدئة جديّة للتوتر الذي شاب العلاقات بين روسيا والغرب. وأعتقد أن المحادثات بين الرئيسين الروسي، فلاديمير بوتين، والأمريكي، جو بايدن، نهاية العام الماضي، قد بدأت في إعطاء بعض ثمارها الإيجابية، لذلك أتمنى أن تكون تلك بالفعل بداية مرحلة انفراج في العلاقات الروسية الأمريكية، والروسية وحلف "الناتو" على وجه الخصوص.
الكاتب والمحلل السياسي/ رامي الشاعر
المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة أو الكاتب